شارك المقال

العرفان بين الاستقالة والاستنارة.. الجزء 1 قراءة في مواقف محمد عابد الجابري من التصوف الإسلامي

مدخل

حاول المفكر الدكتور محمد عابد الجابري أن يقرأ التراث العربي الإسلامي، قراءة عقلانية متوسلًا بمنهج صارم مزج فيه بين المعالجة البنيوية والتحليل التاريخي، مستبعدًا كل رؤية أيديولوجية من شأنها أن تزيّف الحقائق. وراح في مشروعه الضخم، يحلل العقل العربي من خلال قطاعاته الثلاث التي أطلق عليها: البرهان والبيان والعرفان، مبيّنًا نشأة كل قطاع منها، وتطوره منذ عصر التدوين.

وقد أفصح عن وجهة نظره المنتصرة للبرهان، الراضية عن البيان، والناقمة عن العرفان بكل مكوِّناته، وإذا كان العرفان قد تلقّى الحظّ الأوفر من ضرباته وانتقاداته، فإن التصوف كان هو المقصود بالذات، حيث حمّله مسؤولية تكريس اللاعقلانية في الثقافة العربية الإسلامية، وألصق به تبعات التخلف والانحطاط التي شهدتها مجتمعاتنا.

من هنا تأتي هذه الدراسة لتحلل موقف الجابري تجاه التصوف الإسلامي، متخذة المنهج ذاته الذي اعتمده، مُحاوِلةً التحقق من صحة دعاويه، من أن التصوف لا يمت للإسلام بأية صلة، وأنه لا يمثل إلَّا استقالةً للعقل، وانحطاطًا للأخلاق.

-1- دعوى هرمسية التصوف الإسلامي

قسّم الجابري المجالات المكوّنة للثقافة العربية الإسلامية إلى قطاعات ثلاث هي: البيان والبرهان والعرفان[1]، موحيًا للقارئ أن نحت هذه المصطلحات كان من اجتهاده الخاص. ولكنه في هامش الصفحة 284 من كتابه «بنية العقل العربي» يعترف صراحة بأن هذه التسميات كانت من إبداع الإمام الصوفي أبي القاسم القشيري في كتابه (لطائف الإشارات)، مؤكّدًا على أنه لم يستلهم هذا منه، ولكنها مجرد خواطر وردت عليه قبل أن يقرأ ما كتبه القشيري.

وعلى كل حال فإن ما يهمنا في هذه الدراسة هو قطاع العرفان، والذي يتحدد عنده بالمجال من الروحانيات والهواجس والعقائد والخرافات والسحر والخوارق والأساطير... أو بتعبير مختصر هو اللامعقول، الذي تغلغل في ثنايا العقل العربي وفرض عليه رؤية ميثولوجية للكون، شكَّلت -بتفرعاتها المانوية والزرادشتية والأفلوطونية المحدثة والإسرائيليات- حلفًا قويًّا ساهم في غزو نظام البيان العربي الإسلامي، واحتل مواقع أساسية ومتجذرة في الثقافة العربية الإسلامية كعقل مستقيل، خلال فترة الترجمة والتأليف[2].

وبالطبع فإن هذا اللامعقول أو العقل المستقيل، والذي كانت الثقافة الهرمسية أبرز محاوره، ليس من الإسلام في شيء، بل إنه انتقل إلى الحضارة العربية الإسلامية ضمن الموروث اليوناني المترجَم[3].

إن تلك الثقافة الهرمسية الروحانية كانت متواجدة قبل الإسلام في مناطق محددة هي: فلسطين وأفامية وحران[4]، ولقيت بعد ظهور الإسلام رفضًا شديدًا من طرف أهل السنة، لأنها كانت تشكّل الخلفية النظرية لآراء الفرق الباطنية[5].

وبما أن التصوف يُعدّ أحد المكوِّنات الأساسية للنظام العرفاني، فإنه سينطبق عليه ما ينطبق على الكل الذي ينتمي إليه، أي أنه غرق هو كذلك كما غرق النظام العرفاني في بحر الهرمسية، فأمسى هرمسيا تمامًا[6].

وفي نظر الجابري لا يوجد فرق بين ما يسمّى بالتصوف السني والتصوف الفلسفي، فهُما –وإن اختلفت خطاباتهما- ينهلان سويًّا من مرجعية واحدة تنتمي إلى الموروث القديم، الفارسي منه والهرمسي[7].

فالمتصوفة السنيون لا يتميزون عن المغالين في المعتقد، بل فقط في درجة التصريح، «المتصوفة السنيون متكتمون... أما الآخرون فهم مغالون فقط لأنهم يصرحون بالحقيقة إما في عبارات مقتضبة كثيفة المعنى... وإما في خطاب مقاليٍّ استدلاليٍّ يلتمس لنفسه السند من الدين والفلسفة والعلم»[8].

وليس صحيحًا أن شيوخ التصوف الأوائل قد غرفوا من الثقافة الإسلامية الأصيلة لتأسيس معارفهم نظريًّا وعمليًّا، وإنما الذي حدث هو أنهم مزجوا آراءهم الروحانية ذات الأصل الهرمسي بالبيان الإسلامي (قرآناً وسنة وما يتصل بهما) كاستراتيجية تَقَوِيّةٍ (من التقية)[9]، حتى يحجبوا حقيقة مذهبهم، ويتجنبوا إدانات الفقهاء لهم، ولذلك لو «جرّدنا العرفان الشيعي والإسماعيلي من مضمونه السياسي، وجرّدنا العرفان الصوفي من الشكل البياني الذي ارتداه، فإننا سنجد أنفسنا هنا وهناك أمام مادة معرفية تنتمي كلها إلى الموروث القديم السابق على الإسلام، والهرمسي منه خاصة»[10].

ووفق هذه الرؤية الجابرية سيصبح ربط الحسن البصري (ت 110هـ) -وهو المرجعية العليا التي ترتدّ إليها أغلب الأسانيد الصوفية- بالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وبأهل الصُفّة زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مجرّد عملية أيديولوجية ابتدعها الصوفية لإضفاء المصداقية الدينية على منهجهم[11].

وحتى الجنيد (ت297هـ) لسان التصوف وبيانه، هو هرمسي في آرائه، حيث إن كل ما ذكره في التوحيد وفي النفس وطبيعتها ومصدرها ومصيرها ليس مستقًى من أصل إسلامي البتّةَ، بل من آراء هرمسية[12].

ويتأكد هذا الأصل الهرمسي للتصوف عند الجابري من خلال بحثه في الأصول العرقية لبعض الشخصيات الصوفية المرموقة، فمعروف الكرخي[13] هو من أصل مندائي صابئي (أي هرمسي)، وذو النون المصري[14] من بلدة أخميم وهو هرمسي تأثر بالكيمياء وكان له اطلاع على الحكمة القديمة[15].

ثم إن وجود شخصيات فارسية الأصل ضمن الصوفية المسلمين لا يدل عند الجابري، إلَّا على تكتيك دفاعي تبناه هؤلاء الفرس، كوسيلة انتقامية مضادة للعرب المنتصرين، «فالتصوف تبنّاه الفرس المهزومين كوسيلة دفاع ضد العرب الذين اعتبروهم موالي»[16].

ولسنا ندري كيف يكون الأمر فيما لو طُبّقت قاعدة الجابري العرقية هذه على العلماء الفرس المسلمين من غير الصوفية طبعًا، ممن أثْروا الحياة الدينية والعلمية اللغوية في حضارتنا العربية الإسلامية؟!

وهذه المؤثّر الخارجي، الهرمسي منه والفارسي، لم يشتغل منفردًا وبصورة مباشرة، لتأسيس العرفان عمومًا والتصوف على وجه الخصوص، بل وجد في الظروف السياسية التي مر بها المسلمون، مناخًا ملائمًا لانتشاره، وتفسيرُ ذلك أن الفتن التي شهدتها الأمة الإسلامية بعد موت الخليفة عثمان E، أوقعت الضمير الديني في أزمة عميقة، فعبّرت عن نفسها في مواقف الحياد واعتزال الفتنة، والهروب إلى الأماكن المقدسة وطلب الزهد[17].

ثم إن ذلك الزهد التصق بالتشيع في الكوفة في بداية أمره، ثم انفصل عنه بسبب فشل الثورات الشيعية فاعتزل أهله السياسة، وانقلب زهدهم تصوفًا يتغذى من الموروث الصوفي الفارسي والهرمسي[18].

وبهذا يصل الجابري إلى أن ظهور التصوف لم يكن ردّ فعل ضد تزمت الفقهاء، أو بسبب العقلانية المتشددة عند المتكلمين، كما هو شائع عند أغلب المؤرخين، لأن التصوف ظهر قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء ونظريات المتكلمين، يقول: «العقل المستقيل أو النظام العرفاني سواء في مجال التصوف أو في مجال الفلسفة الإشراقية أو على صعيد الأيديولوجيا الإسماعيلية، لم يكن رد فعل ضد تزمت الفقهاء ولا ضد جفاف الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا لقد كان ظهور العقل المستقيل قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء ونظريات المتكلمين»[19].

تلك هي جذور التصوف عند الجابري، ولتُرمَى كل التفسيرات الأخرى عن إسلاميته في سلّة المهملات.

ولا نعلم هل نقبل برأي الجابري أم برأي مؤرخي الإسلام ومنهم ابن خلدون (732هـ - 808هـ)، والذي يعتبره الجابري أحد أعمدة مشروعه العقلاني المغربي، عندما يقول: «لما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة»[20].

أما على صعيد المصطلح الصوفي الذي تفرد الصوفية في نحته من صميم تجاربهم الروحية ومواجيدهم الدينية، فما هو عند الجابري إلا اقتباسًا من الأدبيات الهرمسية[21].

فمصطلح المقام مثلًا لم يقتبسه المتصوفة من القرآن الكريم كما يدّعون، وإنما أخذوه من الموروث العرفاني السابق على الإسلام وبالضبط من الموروث الصوفي الهرمسي، فترجموه إلى العربية أولًا بكلمة درجة، وجمعها درج، بمعنى درجات السلم أو المرقاة، ثم استقر الاصطلاح فيما بعد على كلمة مقام، والدليل على ذلك أن الصوفي أبا سليمان الداراني (205هـ) كان يعبّر عن هذه الفكرة تارة بلفظ الدرج وتارة بلفظ المقام، ومن ذلك قوله: «ما من شيء من دُرج العابدين إلَّا ثبتَ، إلَّا هذا التوكل المبارك فإني لا أعرفه إلَّا كسام الريح ليس يثبت»[22].

هكذا وبكل بساطة يصبح التشابه في استعمال عبارة الدرجة التي وردت عند الصوفية وعند من سبقهم من أهل الديانات الأخرى، دليل قوي عند الجابري على هرمسية التصوف. وقد خفي عليه أن المقام كمصطلح يعني عند الصوفية ما يُقام فيه العبد من العبادات والمجاهدات والرياضات، وأنهم نقلوه من القرآن الكريم لقوله عز وجل: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾[23]، وقولِه: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾[24]، وقولِه: {مَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}[25][26].

أما فكرة الحب الإلهي التي تداولها الصوفية فإنها في نظر أستاذنا، فكرة غريبة على الثقافة الإسلامية، ولذا نجده لا يدري –هكذا يصرّح- كيف دخلت البصرة، ولا حتى العوامل التي جعلت بعض الزهاد يتبنونها[27].

والحقيقة أن أستاذنا يدري جيدًا أن فكرة الحب الإلهي لم تكن ابتداعًا صوفيًّا من حيث المبدأ، بل ولم يكن الصوفية أو غيرُهم من المسلمين في حاجة إلى أن يستوردوها من خارج المدوّنة الإسلامية، فقد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تنصّ على الحب، منها قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[28]، وقوله: ﴿قُلِ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُم اللهُ﴾[29]، وقوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[30].

أما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أرشدنا إلى الطريقة التي نجلب بها محبة الله تعالى لنا، فنكونُ حينها من أحبابه وأصفيائه وأوليائه، حيث قال في الحديث القدسي المشهور (الذي رواه البخاري) قال الله عز وجل: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وما تَرَدَدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ»[31].

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في معنى هذا الحديث: «وَالمَعْنَى: تَوْفِيقُ اللَّهِ لِعَبْدِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يُبَاشِرُهَا بِهَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَتَيْسِير الْمَحَبَّة لَهُ فِيهَا بِأَنْ يَحْفَظ جَوَارِحه عَلَيْهِ، وَيَعْصِمَهُ عَنْ مُوَاقَعَة مَا يَكْرَه اللَّهُ مِنْ الْإِصْغَاء إِلَى اللَّهْو بِسَمْعِهِ، وَمِنْ النَّظَر إِلَى مَا نَهَى اللَّه عَنْهُ بِبَصَرِهِ، وَمِنْ الْبَطْش فِيمَا لَا يَحِلّ لَهُ بِيَدِهِ، وَمَنْ السَّعْيِ إِلَى الْبَاطِلِ بِرِجْلِهِ»[32].

وليس هذا فحسب، بل إن محبة الله للعبد الصالح تبلغ أهل السماء فيحبوه، وأهل الأرض فيحبوه، وحينها يوضع له القبول في الأرض كما قال عليه الصلاة والسلام: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ»[33].

وفيما يتعلق بفكرة الفناء، فإنها دخيلةٌ هي كذلك في نظر الجابري على الساحة الإسلامية «لا تستقيم قط مع عقيدة التوحيد كما قررها القرآن... ولا بد أن تكون من الأمور الوافدة إما من الموروث الفارسي أو اليوناني»[34].

والحقيقة أن الفناء حالة نفسية عامة يعيشها أكثر الناس في حياتهم اليومية، في مستوًى معين، لكنهم لا يتفطنون لذلك، فقد يحدث أن يركّز الإنسان فكره في مسألة من أمور الدنيا أو من أمور من العلم، فيستغرق فيها، إلى حدّ أنك تحدثه فلا يسمعك، وتكون بين يديه فلا يراك، وترى في عينه جمودًا في تلك الحالة، فإذا عثر على مطلوبه، أو طرأ أمر يَردُّه إلى إحساسه، حينئذٍ يراك ويسمعك[35].

فهذا فناء بمعنى زوال الشعور والإحساس من الإنسان بسبب حال اعتراه. وقد حدث هذا الأمر «لصواحبات يوسف (عليه السلام)، قطّعن أيديهن لفناء أوصافهنّ، ولِما ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى جماله. وفي ذلك قيل:

غابت صفاتُ القاطعاتِ أكُفَّهَا

                                   في شاهدٍ هو للبريةِ أبْدعُ

ففنيْنَ عن أوصافِهنّ فلم يكن

                                من نعتهنَّ تلذّذٌ وتوجعُ»[36]

تلك هي أدنى درجات الفناء فيما نشاهده في حياتنا اليومية. فإذا ذهبنا إلى عالم التصوف وجدنا القوم يتحدثون عن فناء من نوع أعمق، وهو فناء الروح في مشاهدة جمال الحق وجلاله، وهو ليس من الأفعال المكتسبة و«لا ينال بتعمّل أو بقصد»[37] بل بمحض فضل من الله عز وجل على عبده، وقد رتبه الصوفية على ثلاث مراتب كبرى هي:

1- مرتبة الفناء في الأفعال: وفيها ينكشف للسالك أن لا فاعل في هذا الكون إلَّا الله تعالى، وتسمى هذه المرتبة مرتبة كذلك توحيد الأفعال[38].

2- مرتبة الفناء في الصفات: وتتحقّق عندما يرتقي السالك من توحيد الأفعال، فيبلغ مقام الهيبة والأنس بما يكاشَف قلبُه من مطالعة الجلال والجمال، فلا يرَى صفة قائمة في هذا الوجود إلَّا وهي أثر لصفة من صفات الحق عزّ وجل التي لا تتناهى، فتفنى صفاته وصفات غيره –شعوريًّا لا حقيقة- في صفات الله سبحانه وتعالى، وهذه المرتبة تسمى في اصطلاح الصوفية مرتبة توحيد الصفات[39].

3- مرتبة توحيد الذات: ومن العارفين من يرقى إلى مقام أسمى من السابق، فتواجهه أنوار اليقين والمشاهدة فيغيب عن وجوده وعن وجود كل شيء سوى الله تعالى، فلا يشهد موجودًا إلا الله، ولا تتأتى هذه المرتبة إلَّا لخوّاص المقرّبين وتسمى مرتبة توحيد الذات[40].

لقد أشرنا إلى مقام الفناء بمراتبه الثلاث، باختصار شديد، داعين القارئ إلى مزيد التوسع في هذه المعاني من مصادرها المُعتمدة، ومن أهلها الذين باشروها وذاقوها. أما الجابري فإنه لا يفيدنا في معرفتها شيئًا لأنها تتجاوز أفقه الروحي والمعرفي.

لقد التزم منهجيًّا بأن لن يُقْدم على إنتاج أي فكرة عن مفكّر آخر، إلَّا إذا استوعبه كل الاستيعاب، ودخل معه إلى البيوت أو السراديب التي دخل هو إليها، ودرس جميع مؤلفاته، وعانى مما عاناه، وتقمّصَهُ، حتى يفهمه ويستطيعَ إنتاج خطاب مؤيدٍ له، أو معارض، لأن مجرد قراءة فصل من كتاب أو فقرة أو مقالة عن هذا المفكر أو ذاك ثم معارضته، أو مدحه يعتبر إنتاجًا رديئًا جدًّا[41]. هذه هي المنهجية التي وعد بها الجابري، وهي عين الصواب.

لكن مفكّرنا ما وفّى بالتزامه، ولا دخل بيوت التصوف وسراديبه، ولا خاض التجربة الصوفية ولا عانى ما عاناه أصحابها، فكان إنتاجه رديئًا جدًّا، حيث حكم وبكل بساطة على مقام الفناء بأنه من الأمور الوافدة إما من الموروث الفارسي أو اليوناني، وأن معناه فناء الذات البشرية، أي اتحادها مع ذات الله[42]!!!.

أما مقام التوبة، والذي يعتبر من مقامات اليقين الأساسية عند الصوفية، فسيرتبط -في نظر الجابري- بحادثة السقوط والخطيئة الأولى، وبالتالي فهو أيضًا ذو أصل هرمسي مسيحي[43].

-------------------------------------------------

[1] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط7، 2004م، ص 556.

[2] المرجع نفسه، الصفحات 202، 557، 558. وكذا: تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط8، 2002م، ص 14 ( بتصرف).

[3] محمد عابد الجابري، العقل الأخلاقي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2006م، ص 430.

[4] أفامية: مدينة أثرية سورية تقع على مسافة 60 كم شمال محافظة حماة. تحتوي على آثار تاريخية ترقى للعصور الهلنستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية. أما حران: فهي مدينة قديمة في بلاد ما بين النهرين تقع حاليًّا جنوب شرق تركيا عند منبع نهر البليخ أحد روافد نهر الفرات. كانت تابعة لسورية حسب معاهدة سيفر التي أنهت الحرب العالمية الأولى، ولكن معاهدة لوزان عام 1923 وضعت المدينة مع بقية الأقاليم السورية الشمالية ضمن الحدود التركية.

[5] الجابري، تكوين العقل العربي،.ص194.

[6] الجابري، بنية العقل العربي، ص 207.وكذا: تكوين العقل العربي، ص211.

[7] المرجع نفسه، ص 207.

[8] المرجع نفسه، ص 287.

[9] التقية: هي الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره، للغير.

[10] الجابري، بنية العقل العربي، ص 372.

[11] الجابري، العقل الأخلاقي، ص 440.

[12] الجابري، بنية العقل العربي، ص 207.

[13] ثوبان بن إبراهيم، كنيته «أبو الفيض» ولقبه «ذو النون» أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجري. ومن المحدثين الفقهاء. ولد في أخميم في مصر سنة 179هـ وتوفي سنة 245 هـ. روى الحديث عن مالك بن أنس والليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة. درس على علماء عديدين وسافر إلى سورية والحجاز. اتهمه معاصروه بالزندقة وحاولوا الإيقاع بينه وبين الخليفة المتوكل متّهمين إيّاه بأنه «أحدث علمًا لم تتكلم به الصحابة»، فاستجلبه المتوكل إليه في بغداد فلما دخل عليه، وعظه فبكى، ورده إلى مصر مكرمًا». انظر، السلمي أبو عبد الرحمن طبقات الصوفية، دار الكتب العلمية، ط2003، ص27.

[14] أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي، (؟؟ - 200هـ) أحد علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف السنّي في القرن الثاني الهجري في بغداد، ومن جملة المشايخ المشهورين بالزهد والورع والتقوى، صحب داود الطائي، وسكن بغداد. كان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدب وهو صبي. وكان المؤدب يقول له قل: «ثالث ثلاثة»، فيقول معروف: «بل هو الواحد الصمد». فيضربه على ذلك ضربًا مفرطًا، فهرب منه. فكان أبواه يقولان: «ليته يرجع إلينا، على أي دين كان، فنوافقه إليه». فرجع إليهما ذات يوم، فدق لباب، فقيل: من؟، قال: «معروف» فقالا: «على أي دين؟»، قال: «دين الإسلام»؛ فأسلم أبواه». انظر، السلمي أبو عبد الرحمن طبقات الصوفية، ص80-85.

[15] الجابري، تكوين العقل العربي، ص 201.

[16] الجابري، العقل الأخلاقي، ص 431، 432.

[17] المرجع نفسه، ص 436، 437.

[18] المرجع نفسه، ص 438.

[19] الجابري، تكوين العقل العربي، ص214. وكذا: بنية العقل العربي، ص 214.

[20] ابن خلدون عبد الرحمن، المقدمة، مكتبة المدرسة، بيروت، ط3، 1967م، المجلد الأول، ص863.

[21] الجابري، بنية العقل العربي، ص 207.

[22] المرجع نفسه، ص 373. وكذا: العقل الأخلاقي، ص 464.

[23] سورة الرحمن، الآية 45.

[24] سورة إبراهيم، الآية 14.

[25] سورة الصافات، الآية 164.

[26] السرّاج أبو نصر عبد الله بن علي، اللمع، ضبط مصطفى الهنداوي، دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 2001، ص 40.

[27] الجابري، العقل الأخلاقي، ص 438.

[28] سورة المائدة، الآية 54.

[29] سورة آل عمران، الآية 31.

[30] سورة آل عمران، الآية 36.

[31] البخاري أبو عبد الله بن إسماعيل، صحيح البخاري، ترقيم وترتيب فؤاد عبد الباقي، دار الرشيد، الجزائر، ط1، 2010م، حديث رقم 5602، ص780.

[32] العسقلاني أحمد بن علي بن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار الريان للتراث، 1407هـ/ 1986م، ج18/342.

[33] البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم 6040،ص731.

[34] الجابري، العقل الأخلاقي، ص 429.

[35] ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان ط1، 1999، المجلد4، الباب220، ص215.

[36] الكلاباذي أبو بكر محمد بن إسحاق، التعرف لمذهب أهل التصوف، ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2001 ص145.

[37] ابن عربي محيي الدين، الفتوحات المكية، المجلد4، الباب، 220، ص215.

[38] الغزالي أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت، ب ت. كتاب التوحيد والتوكل، ج4، ص247.

[39] المرجع نفسه.

[40] المرجع نفسه.

[41] محمد عابد الجابري، التراث والحداثة، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1991م، ص334، 335.

[42] الجابري، العقل الأخلاقي، ص 429، 476.

[43] المرجع نفسه، ص 468.

أترك تعليقا



التعليقات (0)