شارك المقال

 الطريقة الدرقاوية الحبيبية : أصول و منهاج

يهدف هذا البحث إلى التعريف بالطريقة الحبيبية الشاذلية من خلال التركيز على المحاور التالية :

-       التعريف بالشيخ سيدي محمد بن الحبيب ؛

-       التطرق إلى أصول طريقته الصوفية ( الطريقة البدوية الدرقاوية )

-       الإشارة إلى منهجه الخاص في التربية ومذهبه الإصلاحي في التصوف.

تمهيد

يعد التصوف مكونا أساسيا من مكونات الدين الإسلامي، ومحركا من محركاته الفاعلة في تثبيت الشعور بالإيمان في القلوب، وتوطيد علاقة الإنسان بربه وبمجتمعه وبنفسه، كما أنه يعتبر عنصرا حاسما في تحديد سمات أغلب الشخصيات البارزة التي أثرت الثقافة الإسلامية بعطاءاتها الوازنة و مصدرا من مصادر هذه الثقافة و عاملا من عوامل غناها و تطورها.

إن التصوف كعلم ناشئ عن حالات التجلي الإيماني المنبثق عن الممارسة السلوكية التي تعتمد ضبط النفس بأنواع الرياضات البدنية و الروحية، و هو بهذا الاعتبار قد ساهم في تثبيت معالم الدين الإسلامي في عدد من البلدان الإسلامية التي تميزت عن غيرها بتمثل هذه النزعة و الصدع بها، و لعل ارتباط المغاربة الشديد بالإسلام مظهر معبر عن تغلغل التربية السلوكية الصوفية في قلوبهم، بحيث لن نكون مبالغين في قولنا إن الحديث عن الإسلام بالمغرب هو حديث عن التصوف نظرا للدور الذي تحملته هذه النزعة الربانية في تبين المغاربة للإسلام و تمثله.

إن المتتبع لتاريخ التصوف بالمغرب قبل ظهور الشيخ سيدي محمد بن الحبيب يلاحظ ظهور علماء متصوفة حاولوا إصلاح ما فسد من معاملات أهل التصوف، وخاصة داخل الطريقة الشاذلية التي انتسب إليها عدد وافر من العلماء ورجال التربية(1). وقد عمل هؤلاء على إرجاع معتنقي هذه الطريقة إلى النهج الصحيح، وخاصة منهم العامة، وذلك بإعادة إنتاج هذا الفكر في قالب جديد يستجيب لحاجيات العصر ويتطور تماشيا مع حجم الانحرافات، وفي هذا السياق نسجل محاولة كل من أبي الحسن الشاذلي، ابن البناء السرقسطي، أحمد زروق، مولاي العربي الدرقاوي،  وسيدي أحمد بن عجيبة، و غيرهم.

وهكذا وجدنا أبا الحسن الشاذلي يحرص على توضيح و نشر أقوال التصوف الحق الذي عرف انتشارا كبيرا في الأندلس مع ابن عربي الحاتمي (ت 638) وابن سبعين (ت 669) ودعا بالمقابل إلى التخلق بالأخلاق الصوفية السنية الخالصة. لقد كان هدفه الأساسي هو تطهير الفكر الصوفي من النزعات الداخيلة الموغلة في الانحراف و الابتداع، و هذا ما رامه من خلال قوله :"إذا عارض كشفك الكتاب و السنة فتمسك بالكتاب و السنة ودع الكشف وقل لنفسك إن الله قد ضمن لي العصمة في الكتاب ولم يضمنها لي في الكشف"(2).

أما الشيخ زروق فقد دعا إلى تحكيم الكتاب والسنة وتعاليم السلف الصالح، حيث وجدناه يقول: لا حكم إلا للشرع، فلا تحاكم إلا له، قال الله تعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه على الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر) وقد أوجب وحرم وندب وكره وأباح وبين العلماء ما جاء عنهن كل بوجهه ودليله"(3).

وأمام التشوه الذي لحق بتعاليم الشيوخ الأوائل، عمل زروق على فضح بعض طرقيي وقته والكشف عن نواياهم الحقيقية وبين خروجهم عن المبادئ الشاذلية وأنهم لا تحركهم سوى لذة الرياسة والامتياز بالاختصاص، الشيء الذي دفعه إلى القول عن التصوف(احذر هذا الطريق، فإن أكثر الخارج منه)(4)

وفي محاولة منه لحصر أوجه الخلل الذي أصاب جسم المجتمع الصوفي، فقد صنف عموم طوائف التصوف إلى الأقسام التالية:

-قوم أخذوا بدقائق التوحيد ومختلف الشطحات، وانكبوا على دراسة كتب الحاتمي وابن سبعين وابن الفارض وغيرهم ممن لا يفهمون كلامهم ولا يتحققوا بطرائقهم.

-قوم تعلقوا بعلوم الأحوال والمقامات وموارد الحقائق فرأوا أن ليس وراء ذلك مطلب، فاحتقروا العباد والزهاد، بل إنهم فهموا كلام الأئمة واستوعبوه ثم ادعوا حالا لأنفسهم.

-قوم ادعوا الفناء والتصرف بغير اختيار فانبسطوا في المحرمات وربما جرى على لسانهم كلام في الحق يشبه الحقائق فكان سببا في الاغترار به.

-قوم ظهروا بالجذب وتصرف المجانين حتى صار الجذب لهم سجية بحكم العادة فلم يقدروا على الاستقامة في التصرف وثقل عليهم الرجوع إلى المألوفات.

-قوم آثروا المصالح العامة وتتبعوا الفضائل فجنحوا للإطعام واستلاب العوام وغير ذلك مما دعاهم إلى الخروج عن الحق واضطرهم إلى الرئاسة والاستظهار(5).

وبالجملة، فقد لخص زروق حال الطرق الصوفية وما أصبحت عليه من مروق عن سبيل الرشاد والهداية ، حيث يقول : "ثم لقد تتبعت بفكري الطرق الاصطلاحية الموجودة بأيدي الناس الآن فلم أجد عند أهلها نفحة من فتح ولا نور ولا حقيقة ولا علم ولا ذوق ولا فهم خارج عن القياس الأول إلا لذة نفسانية غالبها من استشعار الرياسة والالتذاذ بالامتياز والاختصاص بالنسبة ونحوها، وهذا ما وجدت في صادقهم، فأما غيره فلم أر منه إلا لعبا ولهوا وفخرا كبيرا وتعصبا ... وكل من تأمل ذلك وجده عند مخالطتهم والنظر في أحوالهم"(6).

وقد أنكر زروق على طرقيي زمانه أمورا أخرى عديدة، يتحدث عن بعضها ادريس عزوزي، بقوله : "وهذه الأمور تتجلى في هجران الصوفية للسنن، وإحداثهم للمبتدعات وهجرانهم للعلم، وتلاوة القرآن الكريم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واقتصارهم على ذكر كلمة الشهادة دون إتمامها وهجرانهم ما ورد عن الشارع من الأذكار واستبدالها بأذكار ابتدعوها من عند أنفسهم، كما انتقد زروق طريقتهم في أخذ العهد، وأمورا  ابتدعوها بعد أخذ العهد تتعلق بالشيخ والمشيخة، وفي هذا الصدد قدم نصائح وآراء لإصلاح هذه الأشياء ومحاربة البدع والرجوع إلى طريقة السلف الصحيحة في السلوك، وعلاقة المريد بالشيخ، وشروط المشيخة، والتمسك بالسنة وتقديم العلم على غيره، وتلاوة القرآن الكريم عما أحدثوه من الأذكار والأحزاب، والتقيد بالأذكار الواردة عن الشارع مطلقة إلى غير ذلك من الميادين والمجالات التي حاول زروق تنقيتها مما شابها من مبتدعات وانحرافات"(7).

وإذا انتقلنا إلى القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري) نجد شيخا آخر أخذ على عاتقه تجديد وإحياء مبادئ الطريقة الشاذلية، وهو الشيخ العربي  الدرقاوي(8) الذي كان من جملة المنتقدين للفكر الصوفي المغربي حيث دفعته الحالة المزرية لذلك الفكر إلى تقرير مبادئ أحيا بها ما اندرس من أصول التصوف الصافي، فقد دعا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة وإلى تعلم مبادئ الشريعة، وذلك بعد أن تبين له تكالب معاصريه ممن يحسب على التصوف على خواص الأذكار وجداول أسرار الحرف، حيث يقول : "فإن شئت أن تطوى لك الطريق، وتحصل في ساعة على التحقيق، فعليك بالواجبات، وبما تأكد من نوافل الخيرات، وتعلم من علم الظاهر ما لابد منه، إذ لا يعبد ربنا إلا به، ولا تبتعه إذ لا يطلب فيه التجر، إنما يطلب التجر في الباطن، وخالف هواك ترى عجبا"(9).

وكان تسارع غالب متصوفة عصره على الرياسة واكتساب الأموال مدعاة لكي يوجه أتباعه بقوله :"فكونوا  - رحمكم الله -  على ما يميت نفوسكم(10). ويحيى قلوبكم، وأصل المحاسن من حيث هي فراغ القلب من حب الدنيا، كما أن أصل القبائح من حيث هي عمارته لحبها، وقد كتبت لبعض الأخوان – بعد كلام تقدم -: سبب الفسق من حيث هو حب الدنيا، إذ المقبل عليها بقلبه وجوارحه هو الفاسق الكبير".(11)

وقد اتبع الدرقاوي نفس النهج الذي اتبعه سالفاه زروق والشاذلي، ليؤكد على ضرورة الالتزام بالكتاب والسنة لأنهما المصدران الأساسيان، لجميع التعاليم الصوفية، حيث يقول ناصحا محبيه : "..فإني أنصحكم لله وفي الله، وابتغاء مرضاة الله، ونصحي إياكم أن تشدوا أيديكم غاية جهدكم على السنة المحمدية التي هي الحصن المانع من كل بلية، أو التي هي سفينة النجاة ومعدن الأسرار والخيرات كل وقت وحين إلى أن يأتيكم اليقين -  أي الموت"(12). كما يوصي أتباعه بنهج السلف الصالح الذين كان ذكر الله ديدنهم في جميع أحوالهم بعكس ماكان عليه بعض معاصريه : "... وإذا تحيرتم في أمر من أموركم، وضاقت منه صدوركم واشتد منه أمركم، وفرغت الحيل لكم فلا تخوضوا فيه -  فلا تدبروا ولا تختاروا كما هو شأن أهل الغفلة لطف الله بنا وبهم – بل اشتغلوا بما أمركم به ربكم، إما صلوا ما شاء الله ، أو اتلوا ما شاء الله، أو اذكروا : (لا إله إلا الله) ما شاء الله، أو صلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم..." (13).

 هذه الوصايا التي تركها الشيخ الدرقاوي نجد صداها يتردد في كتابات مريده الشيخ أحمد بن عجيبة الحسني الذي يعتبر من أعلم علماء التصوف في تاريخ المغرب، وقد كانت له هو الآخر انتقادات عديدة على متصوفة عصره ومنها ما يتعلق بعادات بعض الطرق الصوفية التي انتشرت بين أوساط العامة، وخاصة "العيساوية" و"الحمدوشية"، . يقول في ذلك: "كانت طريق القوم رفيعة القدر عالية الشأن تضاهي وتحاكي الكوكب المضيء في الرفعة والإشراق... فكان لا يدخلها ولا ينتسب إليها إلا  الخيار من الزهاد والعباد الذين علت همتهم وصلح قصدهم ونيتهم، والآن صار ينتسب إليها الأشرار والفجار فتجد فيها : هذا قائد وهذا باشا وهذا حرسي وغير ذلك، فمنهم من يتخذها حرفة فصارت كالحائط القصير يتخطاه القوي والضعيف"(14).

وتبعا للحس الإصلاحي الذي كان يتميز به ابن عجيبة، فقد عمد إلى شرح منظومة ابن البناء السرقسطي(15)الشهيرة، والمسماة:"المباحث الأصلية"، وتعد هذه المنظومة من الوثائق الهامة التي تصور حال التصوف إبان العصر المريني، حيث ينتقد ابن البناء في فصلها الأخير متصوفة عصره من خلال قوله:

يا سائلي عن سنن الفقير(16)

إن الذي سألت عنه مـات

فطمست أعلامـه تحقيقـا

سألت ما عز عن التحرير

وصار بعد أعظما رفـات

فلم تجد بعد لها طريقـا(17)

 

 

 

 

 

حيث يوضح بأن التصوف الحقيقي الذي كان عند السلف الصالح قد ولى واندثر ولم تبق إلا رسومه وهذا ما تحفظ منه الشيخ ابن عجيبة الذي يرى بأن "الذي قاله الناظم ليس على التعميم، إذ لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته وشيخ التربية (الحقيقي) ولا يخلو الزمن منه أبدا...'(20).

هذه إذن باختصار بعض معالم الإصلاح الصوفي التي ظهرت قبل عصر سيدي محمد بن الحبيب الأمغاري، وقد ذكرنا منها نبذة مختصرة لنوضح مسألتين:

1-أن نزعة الإصلاح في الفكر الصوفي، كانت مستمرة باستمرار ظهور الانحرافات والبدع داخل الطرق والزوايا الصوفية.

2-أن إحياء الشيخ ابن الحبيب للمنظومة الصوفية يأتي في هذا السياق، حيث أكمل الرجل مجهودات الشيوخ السابقين في الإصلاح.

إذن فمن هو الشيخ سيدي محمد بن الحبيب وماهي أسس التربية الصوفية لديه؟ جوابا على هذا السؤال , ندعو القارئ الكريم أن ينظر المقال التالي 

يتبع ...

كتبه د.عبد العزيز أبايا


[1] - تعتبر الطريقة التي أحياها الشيخ ابن الحبيب متفرعة عن الطريقة الشاذلية الدرقاوية، انظر في هذا الصددمقدمة ديوانه " بغية المريدين السائرين و تحفة السالكين العارفين "

[2] - إيقاظ الهمم في شرح الحكم، 2/122، دار الفكر، د.ت

[3] - قواعد التصوف، ص 47، المطبعة العلمية مصر: 1320.

[4] - نفسه، ص71.

[5] - انظر عدة المريد الصادق، ص 11-15، تحقيق، إدريس عزوزي، مطبعة وزارة الأوقاف: 1998.

[6] - المصدر السابق، ص  19-20.

[7] - المرجع السابق، ص 190.

[8] - توفي سنة (2033م-1239)

[9] - مجموعة رسائل مولاي العربي الدرقاوي، ص 70، تحقيق : بسام محمد بارود، المجمع الثقافي، أبو ظبي: 1999.

[10] - يقصد بإماتة النفس التغلب على شهواتها وكبح ما يوقر فيها من الرذائل.

[11] - مجموعة الرسائل، ص 80.

[12] - المصدر السابق، ص 410.

[13] - نفسه، ص 410.

[14] - عن كتاب : إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، لعبد المجيد الصغير، ص: 90، دار الآفاق الجيدة، المغرب : 1994م

[15] - من متصوفي القرن السابع

[16] - مقدمة تحقيق عدة المريدة الصادق، ص 160.

[17] - لفظ يطلق عند الصوفية ويقصدون به السالك أو المريد.

[20] - إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، ص 90.

 

 

 

أترك تعليقا



التعليقات (0)